49 عاما على المجزرة.. ضمير العالم «مات» في بحر البقر
والدة شهيد تطلب اعتراف العالم بالمجزرة وتتمنى الموت في الكعبة: ابني قال لي «مش هرجع».. وأحد الناجين يكشف تفاصيل المأساة: «فضلت في غيبوبة 3 شهور»
تحرير:إسلام عبد الخالق٠٨ أبريل ٢٠١٩ - ٠٩:٤٣ ص
من الصعب أن تبحث عن وصف يليق بذكرى مر عليها نصف قرن من الزمان، وخلّفت وراءها ألمًا لم تمحه السنون، وربما لن تفعل، لكن ما يجعل الكلمات تتدفق والتعبيرات تتحد والهجوم يستمر أن العدو «الغاشم» لا يزال ينبض بأنفاسه خارج الديار، بينما لا يزال ضمير العالم صامتا كعادته لم يستيقظ بعد ولا ينتوي حتى الالتفات لغير ذلك، تاركًا في جبينه إثمًا شاهدًا على أن الجميع صمت بحق أطفال لم يبلغوا الحُلم بعد، ووارى الثرى شهداء بالعشرات يُبلغون ربهم أن في الأرض حقا حتمًا سيأتيهم مهما طال الزمان.
مع دقات التاسعة واثني وعشرين دقيقة من صباح الأربعاء 8 أبريل 1970، وبينما يترجل الجميع إلى أرضه يحرثها وتقوم النساء بأعمالهن المنزلية، سمع الجميع جلبة كبيرة تهشمت من أثرها النوافذ، بينما احتفظت سماء القرية الواقعة بأقصى مدينة الحسينية بمحافظة الشرقية بدويّ الغارات التي أحدثتها طائرات «الفانتوم»
مع دقات التاسعة واثني وعشرين دقيقة من صباح الأربعاء 8 أبريل 1970، وبينما يترجل الجميع إلى أرضه يحرثها وتقوم النساء بأعمالهن المنزلية، سمع الجميع جلبة كبيرة تهشمت من أثرها النوافذ، بينما احتفظت سماء القرية الواقعة بأقصى مدينة الحسينية بمحافظة الشرقية بدويّ الغارات التي أحدثتها طائرات «الفانتوم» وهي توجه ضربتها «الخسيسة» تجاه المدرسة التي كانت تضم 86 طفلا في ذلك الوقت، لتتهدم الجدران ويختلط صراخ التلاميذ بأشلاء زملائهم، وتتطاير لافتة المدرسة إلى أرجاء بعيدة، حاملةً آثار الضربة وعبارة حملت في ما بعد اسم القرية التي شهدت الكارثة «مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة».
على بُعد أمتار من المدرسة المتناثرة أشلاء تلاميذها، كان المشهد مختلفًا قبل الغارات بعدة دقائق، إذ كان بطل الواقعة أحد التلاميذ بالصف الثاني الابتدائي، ويُدعى «ممدوح حسني صادق»، بالكاد أكمل ربيعه الثامن، وطالب الصغير والدته بشيء كان على غير العادة: «اعمليلي سندويتش يا ماما»، لترد الأخيرة بعبارة خرجت عادية وقتها ولم تدرك الاختلاف آنذاك، إذ تعللت في رفضها وتعجبها بأن البيت يجاور المدرسة، وأن فتاها حتمًا سيأتي وقت «الفسحة»، لكنه زاد تعجبها حينما أقسم على غير ذلك: «والله ما أنا جاي».
غادر ممدوح البيت تاركًا والدته تتخبط في حيرتها، قبل أن تأوى إلى غرفة «العجين» كعادتها تحضر الدقيق اللازم لإعداد الشطائر عسى أن يعود الطفل إلى عادته اليومية ويأتيها وقت الفسحة، لكن دقائق قليلة سبقت الوقت الذي انتظرته الأم وعجلت برحيلٍ بدأه فلذة كبدها بقسمٍ وغادره على مرحلتين.
الأولى حينما جاءها جسده يحمله رجلان من أهل القرية، وصفتهما الأم بأن أحدهما كان يحمل الصغير والآخر «كان شايل رجله» التي تركت جسده بفعل الغارة، بينما وجل قلب والدة الطفل وازداد همًّا على همه، لكنها استقوت بأحد الرجلين، الذي أكمل معروفه بأن أركبها عربة كانت في طريقها إلى المستشفى، وفي العربة كان المنظر أكثر بشاعة، بعدما انضم جسد الصغير ليتلاحم مع أقرانه من الضحايا والشهداء، وباتت العربة تقطر دمًا على الأرض في طريقها حتى المشفى.
وصلت العربة إلى المستشفى على أمل أن تعود الحياة إلى جسد الصغير بدلا من فراقه، لكن شهادة استشهاده كُتبت هناك ورحل تاركًا والدته تنتحب والدموع تغرق وجنتيها على مدار 49 عامًا، قبل أن تفصح لـ«التحرير» عن طلب ورجاء.
طلب الأم التي ناهزت أعوامها السابعة والسبعين تلخص في أن يعترف العالم بما اقترفته يد الإجرام والعدوان في المجزرة، وأن يتم قبول دعوتها التي رُفضت من قِبل القانون الذي أكد عدم أحقية أهل الشهداء، وهي مُمثلة عنهم جميعًا، بأي تعويضات بشأن «المجزرة»، بينما أوضحت هي أن رجاءها الأخير بات زيارة يكتبها الله لها إلى الكعبة المُشرفة عسى أن تشهد رحيلها: «نفسي أروح أعمل عمرة وأموت هناك».
حال والدة ممدوح، التي تُدعى نبيلة علي محمد حسن، لم يختلف كثيرًا عن الأطفال المصابين في المجزرة، الذين تخطت أعوام أصغرهم السادسة والخمسين ببضعة أشهر، لكن الذكرى لا تزل محفورة في أذهانهم رغم أنهم صاروا أجدادًا، ومن بينهم التقت «التحرير» مع من تحدث باستفاضة، ومن آثر الإشارة ضمنًا لما حدث وعبّر عن غضبه مما آلت إليه الأمور، طالبًا عدم تصويره.
السيد محمد محمد شرف، البالغ من العمر 58 عامًا، والذي كان أحد المصابين في المجزرة، روى تفاصيلها التي تلخصت في أنه كان في أحد الفصول بين زملائه من تلاميذ الصف الثاني الابتدائي، قبل أن ينتهي الأمر سريعًا على حد وصف الرجل: «كنا في حصة حساب، وفجأة جات الضربة ولقيتني وقعت تحت التختة مفقتش غير بعدها بـ3 شهور»، منوهًا بأن إصابته استدعت بقاءه في الجبس والشاش لمدة تسعين يومًا جراء الحروق والإصابات التي تعرض لها، قبل أن يلخص طلبه في أن يقام المتحف بجوار المكان الأصلي للمدرسة القديمة، وهي البقعة الموجود بها حاليا النصب التذكاري بأسماء الشهداء.
ومن الصف الثاني إلى الأول، حيث كان من بين المصابين السيد عبد الرحمن حسن، الذي تربو أعوامه حاليا على السابعة والخمسين، لكنه أفاد هو الآخر أن ذاكرته لا تعي ما حدث إلا ومضات قليلة، لخصها في «لا حيط ولا مُدرسين ولا تخت»، موضحًا أن حالهم لم يشهد اعتراف أي من المسؤولين بهم حتى كتابة هذه السطور، فرغم إصدار بطاقات من «الشؤون الاجتماعية» تحمل 4 امتيازات لمصابي المجزرة، تنص على أن من حق حاملها الحصول على 5 أفدنة ووظيفة وشقة ومعاش، فإن أيا من ذلك لم يحدث حتى الآن.
محمد السيد علي سعيد، والشهير بـ«كركر» ابن الـ57 عامًا، أشار إلى أنه كان تلميذًا بالصف الأول الابتدائي وقت المجزرة، والذي تصادف ارتداؤه «بيجاما» كانت جديدة حضر بها حصة «الحساب» وانتهى المشهد بالقصف، لكن الرجل عاد ليخاطب الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن يُلبي طلب المصابين ويتم تكريمهم معنويا بأن يُعاملوا بصورة تتضمن حصولهم على «كارنيه» ينص صراحةً على أنهم ضحايا حرب.
«استشهاد 30 طفلا في غارة إسرائيلية» مانشيت تصدر صحف مصر صباح اليوم التالي للغارة التي خلفتها طائرات «الفانتوم» في قرية «بحر البقر»، إلا أنه تم تدشين نصب تذكاري بأسماء التلاميذ الشهداء، والذي حمل تسعة عشر اسمًا بدلا من ثلاثين، وعن هذا يقول محمد عبد المعطي، المدير السابق للمدرسة، إن من استشهدوا هم 19 تلميذًا فقط وليس كما ذكرت وسائل الإعلام وقتها، قبل أن يوجه استفسارًا مُبهمًا: «مش عارف 30 دي جات منين؟».
عبد المعطي أوضح لـ«التحرير» أن ما يتبقى من الذكرى حاليا نصب تذكاري ومدرسة تحمل اسمًا تسبقه كلمة «شهداء» بالإضافة إلى متحف يضم متعلقات التلاميذ وأشلاء حاجياتهم، واحتفالية تقام بصورة سنوية يحضرها كبار المسؤولين في المحافظة يوم الذكرى.